السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
( أحوال الناس مع الصبر ) جزء من محاضرة :
( أولئك هم الصابرون ) للشيخ : ( سلمان العودة )
أحوال الناس مع الصبر
ثالثاً: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) [التغابن:2]
قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20]
ولهذا تجد أن الكافر الذي كان في الدنيا منتهى قصده وغاية مراده ومطمح نظره، أن يعب من اللذات ما استطاع لأنها فرصته الوحيدة، فيسكر بخمر اللذة والشهوة، ثم يسكر وهو ينادي: سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الغيب رفات البشر هبوا املئوا كأس الطلا قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر أفق وهات الكأس أنعم بها واكسب خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من تربها ويفرق الكافر من البلاء والعناء، ويضيق بكل مصيبة تنـزل به فتمتلئ نفسه كآبة وحسرة ويمتلئ قلبه هماً وغماً وندماً، وتنتهي حياته نهاية بائسة محطمة أليمة دون أن يدري لماذا ابتدأت؟ ولا لماذا تنتهي؟
فأنت تجد الكافر هلوعاً جزوعاً منوعاً، ربما غابت عنه صديقته
ه فلا يجد مخلصاً إلا أن ينتحر أو ينهي حياته بشر حال؛ لأنه جعل الحياة كلها ملخصة مقتصرة بهذه الحبيبة أو الصفقة أو هذا المنصب أو الكرسي، فهو يقول: أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور فحياة فخلود أم ثناء ودثور أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري أما المؤمن فنظرته الصادقة الملتزمة المتزنة تؤكد له ألاَّ يجزع عند مصيبة، ولا ييأس عند ضائقة، ولا يبطر عند نعمة، وأن يقتصر من متاع الدنيا على المباح طلباً للمتعة الكاملة عند الله تعالى في الدار الآخرة. قرب لـعبد الرحمن بن عوف وهو من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، وأصحاب الملايين منهم، قرب له طعام فلما نظر إليه تذكر ماضي حياته، فبكى ثم بكى ثم بكى، وأمر بالخوان فرفع، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [[كنت مع أخي مصعب بن عمير وأرضاه، وكان خيراً مني وأفضل، ومات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطينا رجليه ظهر رأسه، فأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه الإذخر، ثم أصابنا من الدنيا ما أصابنا فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا]]
إن التصور بين المؤمن والكافر كبير، والمنهج والطريق متباعد، ولهذا صارت الحياة صراعاً بين المؤمنين والكافرين بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فيبتلي الله تعالى بعض الخلق ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعاً، قال الله تعالى:
وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]
وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]
وقال سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه مسلم، قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك} فالله تعالى يداول الأيام بين الناس، يديل للمؤمنين من الكفار تارة، ويديل للكفار من المؤمنين تارة، ويجعل الكفار تحت سلطة المؤمنين وقهرهم أحياناً، كما جرى ذلك عبر أكثر من عشرة قرون؛ حيث كان اليهود والنصارى تحت سلطة المسلمين، كأهل ذمة أو أهل عهد أو مقهورين مأسورين محاربين يشرد بهم المؤمنون من خلفهم في كل مكان. وأحياناً يجعل الله المؤمنين تحت قهر الكفار أو المنافقين وتسلطهم، والدهر هكذا لا يدوم على حال له شأن، كما قال الشاعر: وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان وهذا البلاء الذي يلقاه المؤمن في سبيل الدين أثر من آثار الاستقامة على المنهج، فإذا أصابه في سبيل دينه ما أصابه من أذى سواء كان هذا الأذى من قريب، من والد أو زوج أو أخ أو صديق، أو من المجتمع كله، من أسرة، دولة، أمة، من جهة، فإن هذا البلاء يجعل المؤمن بين موقفين لا ثالث لهما: الموقف الأول: النكوص والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له الآلام وعرضه للمحن، وهذا حال صنف من الناس وصفهم الله تعالى في كتابه فقال:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج:11]
أي: على طرف أو على حال معينة، يعبد الله على حال السراء فقط، أما إذا جاءت الضراء تغيرت عبادته وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
جاء في الصحيح عن ابن عباس : [[أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله ، فإذا ولد له بعد الإسلام غلام، ونتجت خيله وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، هذا دين جيد فآمن وثبت، أما إذا لم يولد له غلام، ولم تنتج خيله، ولم يكثر ماله، أو أصابه قحط، أو جدب، قال: هذا دين سيئ ثم خرج من دينه وتركه إلى كفره وعناده]]. وبعض الناس يقول: لو كان هذا الدين خيراً ما تسبب في حرماني من وظيفتي -مثلاً- أو حرماني من الترفيع والعلاوة، أو مصادرة حريتي، أو كساد تجارتي، أو فراق زوجتي، أو إيذائي، أو قحط أرضي، فيفرق فيترك الطريق. أما الموقف الثاني: فهو موقف الصبر والإصرار، والثبات مهما تطلب الصبر من الجهود والتضحيات، ومضاعفة الصبر كلما تضاعف الألم، والاستمرار على الصبر مهما طال الطريق، ولهذا قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا [آل عمران:200] فأمر بالصبر، ثم قال: وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] فهي أربعة أمور: الأول: (اصْبِرُوا): وهذا أمر بالصبر، ثم ترقى بعد ذلك فقال: (وَصَابِرُوا) أي: إذا واجهتم قوماً صبروا كما صبرتم، لأن الكافر يصبر أيضاً في سبيل دينه. إذاً المؤمن لا يكفي منه الصبر، بل لا بد أن يصابر حتى يتغلب على الكافر، ثم قال: (وَرَابِطُوا) أي: استمروا على المصابرة، فإن الكافر أيضاً قد يصابر ولكنه لا يرابط، فيصابر ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين ثم يزول بعد ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]. وأخيراً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنه لا بد مع الصبر من تقوى، وبعض الناس قد يكون عنده صبر، ولكن ليس عنده تقوى كما سوف يأتي، وهذا هو موقف المؤمنين الصادقين في عقد الإيمان، الذين لا تزيدهم المحن إلا إيماناً بالله وتسليماً وتصديقاً بوعده ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام، كما حصل للمؤمنين يوم الأحزاب، وذلك لتميز مدعي الإيمان من الصادقين في إيمانهم، كما سمى الله عز وجل الابتلاء فتنة، لأنه يمحص الصادق من الكاذب، ويبين للإنسان قوته من ضعفه، ولهذا قال النبي كما في الصحيحين: {ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)
وقال الله تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن الله تعالى يسلط عليهم البلاء، ليربيهم به، ويرقيهم به شيئاً فشيئاً، ثم يرزقهم الثبات عليه لينالوا عنده عظيم الأجر وجزيل الثواب، فيربيهم بالمحن والشدائد، ويصفي قلوبهم من الدخل والدغل والغش والريبة والنفاق والضعف، وكلما خرجوا من محنة أو فتنة بالصبر والثبات والإصرار قيض لهم أخرى أشد منها وأقوى، بعد أن وعوا درس المحنة الأولى، وارتقى مستوى إيمانهم ويقينهم، ولهذا جاء في حديث سعد بن أبي وقاص، الذي رواه أهل السنن وهو صحيح أنه قال:
{يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه؛ وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض ما عليه خطيئة}.
وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: {دخلت على رسول الله وهو يوعك تصيبه الحمى، ويشتد عليه الوعك والبلاء، قال: فوضعت يدي عليه فوجدت حره في يدي من فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك؟ قال: نعم إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً، قال: {الأنبياء} قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، وإن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء}
الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح، ومثله أيضاً حديث ابن مسعود ، وفيه قول النبي : {إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال: ذلك يا رسول الله أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها} والحديث رواه الشيخان